يناير 11، 2010

|كرمــــــاً|

مما كان في غابر الأزمنة، من عناء السفر في الصحراء التي تصقل روح الإنسان في مقاومته لبلائها و قهره لامتدادها اللا متناهي، و من شحّ الأرض عن الجود بالماء إلا قليلاً، و من قلّة الزاد و الأصحاب، و صعوبة الانتقال.

كان هنالك رجلٌ يختصر الصحراء على قدميه، قد نفذ زاده منذ أيامٍ ثلاث فعصّب بطنه ليحبس عصافيرها عن ذكره بجوعه. في بُعدٍ ما من هذه الصحراء تُقاطع في الطريق مسيرهُ، يعيشُ رجلٌ بدويّ فقير الحال، ذا زوجة و أطفال. فبينما صاحُبنا يسير دنوّا من الرجل البدويّ و قد أعيتُه المسافة و منعت عنهُ الشمسُ الرؤية الجليّة بعدما لملمت بقايا ضوئها، قد بدا للرجل البدويّ شبحاً يتقنّعُ بالظلام ففزع له و قام لعلهُ ذئبٌ يبتغي لحماً يحشو به بطنه، لكنه بعد وهلةٍ تبيّن أنه ضيفٌ لا حول له و لا قوّة، مُرهقُ الملامح ،عاصب البطن جوعاً، فتبادر الهمّ إلى قلبه و حاول إخفاء وجهه عنه لأنه عاجزٌ عن إكرام هذا الرجل إذا نزل ضيفاً كما يجب، فلا طعامٌ يُشبع به جوع أطفاله و زوجته فكيف برجلٍ غريب.

بانت حيرته و همّه أمام أطفاله الذين لا يقدرون على حُزن والدهم، صبروا للجوع إذعاناً للقدر، و لكن.. من يطعم هذا الضيف الذي حلّ عليهم فجأة في الصحراء التي تخلو من البهائم فكيف بالليل الذي تنام فيه المخلوقات؟!!، ثم إن إكرام الضيف خُلقٌ للعرب أصيل. تقدّم الابن يطلب من والده ذبحه-كرماً-، يريدُ أن ينـزع همّ أبيه و لئلا يُحرجَ أمام ضيفه، علّ هذا الضيف يظنُّ بأنهم ذووا خيرٍ و لكن يبخلون ببعضٍ فيذمّهم ذماً لا يُحمدون عقبه فليسوا هم بلئيمي الأصل. تحيّر الأب أكثر، أيذبح ابنه و يكرم ضيفه أو يترك الضيف دون إكرام؟

توقفّ برهة، و دعا ربّه بأن لا يترك هذا الضيف دون طعام في هذا اليوم الذي لا طعام لهم فيه. فبينما هو يدعو ربّه أبصر على المدى قطيعاً من حمر الوحش عطشى تبتغي الماء، و قد تقدّم أسمنُهم للماء يروي ظمأه. تسلل البدويُّ بينها على أنه منها يريدُ ذبحها، فلّما تروّت وضع السهم في كبد القوس و أطلقه فأصابتها، فخرّت بدمّها مذبوحةً من الوريد إلى الوريد، و قد حظي بنعمٍ فتيٍّ كثير اللحم استجابة من الله لدعائه، أكرم به ضيفاً و أطفأ به جوع عياله و سدّ به فراغ البطن لزمنٍ من إقبال هذا الضيف، ذاك الذي حظي بضيافةِ رجلٍ كريم الأصل لا يمتزجُ معه اللؤم كما الماء والزيت و الذي من فرط كرمه تقدّم ابنه ليضحي بنفسه لأجله.



قصيدة الحطيئة- وطاوي ثلاث